مشاهدة النسخة كاملة : البحث العلمي وهوية الجامعة السعودية..؟؟؟


المستشــار
22-12-2007, 04:09 PM
البحث العلمي وهوية الجامعة السعودية

د. مشاري عبدالله النعيم
(1)
لقد اثار اللقاء الذي جمعنا بوفد من جامعة (كرتن) للتقنية Curtin University (وهي جامعة تقع في غرب أستراليا وتضم حوالي 40000طالب في مختلف التخصصات) الكثير من الأسئلة حول هوية الجامعة السعودية، فما الذي يميز أي جامعة في المملكة وما هو مصدر سمعتها الأكاديمية، والحقيقية أنني حاولت أن أجاري الوفد وأن ابحث عن أي خيط للمقارنة بيننا وبينهم فلم أجد، وعندما ذكر احد أعضاء الوفد الاسترالي أنه يوجد في جامعتهم مركز لبحوث الكيمياء كلف الجامعة 100مليون دولار، أسقط في يدي فنحن أكبر دولة بترولية ولا استطيع أن أقول ان لدينا مركزا واحدا لبحوث الكيمياء بل حتى شركة أرامكو التي تبنت خلال الفترة الأخيرة مركزا للبحوث والتطوير وهو مركز يعنى ببحوث البترول والغاز لم تستكمل المركز بشكل كامل بل أنشأت جزءاً منه (بنسبة الربع تقريبا) على أمل ان تستكمل الباقي في المستقبل، ويبدو أن ارامكو لم تتجه هذا الاتجاه إلا بعد أن يئست من الجامعات السعودية وتأكد لديها أنه لن يكون هناك مركز للبحوث عليه القيمة في الجامعات السعودية لأن البحث لا يعني الجامعة لا من قريب أو بعيد. مركز واحد كلف مبلغا كبيرا في الجامعة الاسترالية وهو واحد من عدة مراكز فهناك اهتمام خاص بالعلوم الطبية في هذه الجامعة وهناك من هو مشهور بأبحاثه في تطور العقل البشري وصنع سمعة عالمية لهذه الجامعة. حاولت أن اتذكر بأي صورة كانت أي جامعة سعودية اشتهر منها باحث واحد أو عرف عنها أنها متخصصة في مجال من المجالات البحثية وشكل هذا المجال تاريخا وتقاليد بحثية استمرت لعقود فلم أجد. خمسون عاما على اقدم جامعة سعودية ولم نستطع صنع جامعة حقيقة لها مكانتها البحثية ولم يتشكل لدينا علماء بمعنى العلماء الذي يتبنون بحوثا بعيدة المدى حتى في القضايا الحيوية التي تمس حياتنا ومستقبلنا وأقصد هنا المياه والنفط. حتى كليات الزراعة وهي كليات بحثية ومرتبطة بالصناعة وبالأمن الغذائي الوطني أصبحت في جامعاتنا كليات باهتة ومضحكة لا يقبل عليها إلا من لم يجد له قبولا في أي تخصص وهذا وربي لأمر محزن، يؤكد وجود الخلل في الجامعة السعودية التي لم تصنع لنفسها رؤية ولم تتبن أي رسالة، ووالله إنه لأمر يؤكد أننا لم نصنع بعد أساتذة جامعيين بمعنى الأساتذة الذين يحملون الهم الأكاديمي ويدافعون عنه ويفنون حياتهم في مجالات العلوم التي تخصصوا فيها.

(2)

ومع ذلك لا أريد أن أهضم حق المجتهدين المثابرين الذين يعانون من تهميش الجامعة لهم ومن نكران المجتمع لحقوقهم فهؤلاء يحاولون كفرادى ويغردون خارج السرب ويشعرون بعزلة كبيرة ولا يجدون من يقف بجانبهم. كما أنني لا أنكر وجود منح بحثية تقدمها شركات مثل سابك وشركة المراعي وبعض الجهات حتى الجامعة نفسها صارت في السنوات الأخيرة تقدم منحا بحثية للمشاريع الصغيرة وهناك مدينة الملك عبدالعزيز التي تدعم البحوث الكبيرة لكنها كلها برامج غير مؤثرة لأنها تفتقر للتخطيط، فليس هناك هدف وليس هناك رسالة لهذه المنح. والأخطر من هذا أن الجامعة السعودية فارغة من الداخل، أي ان السنوات العجاف التي مرت بالجامعة فرغتها من الباحثين الحقيقيين فلم يعد البحث العلمي مجديا للأستاذ السعودي وهو يرى نفسه يعاني بشكل مستمر من بيروقراطية الجامعة أولا وتسلطها ثانيا ومنحها للبحوث لمن لا يستحق وكأن البحوث هي لمساعدة البعض وتلميعهم على حساب البحث الحقيقي (وهو أمر ينطبق على مدينة الملك عبد العزيز كذلك)، لذلك لا نجد بحوثا حقيقية ولا نجد ثقافة بحثية حقيقية بل هي صورة كبيرة خادعة لا تخفي قيمة حقيقية وراءها. على أن أكثر ما يبعد الأستاذ السعودي عن البحث حتى على المستوى الشخصي هو شعوره بالمرارة من دخله المتدني وكادره الوظيفي الذي يجعله منشغلا بلقمة العيش ويدفعه للبحث عن مصادر للرزق، حتى أن بعض الأساتذة صاروا أشبه بالشحاذين وهم يجوبون الدوائر الحكومية والشركات بحثا عن فرصة هنا وفرصة هناك وكلها فرص من أجل تحسين الوضع المادي لا من اجل تقديم استشارات حقيقية حتى أن أحد المسؤولين في احدى الغرف التجارية قال لي "إن القطاع الخاص فقد ثقته في الاكاديميين". فويل لهؤلاء الأكاديميين الذين لم يجدوا أحدا يثق فيهم وفي قدراتهم وويل لهم لأنهم فرطوا في قيمتهم العلمية حتى أننا لو قمنا بإجراء اختبار لكل أكاديمي في تخصصه سوف نجده توقف عند علوم القرن الماضي (إلا من تخرج مؤخرا منهم بالطبع).

(3)

في أمستردام قمنا (واقصد وفد جامعة الأمير محمد بن فهد) بزيارة الهيئة الملكية الهولندية للفنون والعلوم وهي هيئة ليس لها علاقة بالفنون مثل الهيئة الملكية البريطانية للفنون بل هي متخصصة في العلوم بشكل خاص وهي هيئة استشارية في مجال البحث العلمي ولا تقوم ابدا بإجراء البحوث بل تتكون من 400عضو شرفي متطوعين كاستشاريين كل في مجال تخصصه ( 200منهم هم العاملون بينما البقية هم من الذين تجاوزا الستين لكنهم مازالوا يعملون حسب قدراتهم). مهمة هذه الهيئة هي تقديم الدعم الفكري والتخطيطي اللازم للبحوث العملية ولا تقوم بأي حال بدعم البحوث ماديا. دعوني أقول ان الهيئة سوف تحتفل بعيد ميلادها المئتين قريبا، ولها حق أن تحتفل بالطبع وهي تلتفت للوراء لترى تاريخا حافلا من الانجازات في بلد صغير صار يحقق أكبر عوائد مادية ويعيش اغلب أفراده بسعادة ويتلقون أعلى معدل للدعم الاجتماعي في أوروبا. أثناء ذلك اللقاء حاولنا أن نبحث عن مقابل للهيئة في المملكة ووجدنا من يستقبلنا يوزع علينا أوراقا استخرجها من الانترنت عن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ويقول انني اعتقد ان هذه المؤسسة لديكم يمكن أن يكون دورها يشبه دور الهيئة الملكية لدينا. لقد شعرت ببعض الخجل ليس لأن دور المدينة مختلف بل لأننا لا نعلم الكثير عن مدينة الملك عبد العزيز المنعزلة والتي لا تقوم بدورها الحقيقي كما ينبغي حتى انه صار يسألنا عن المدينة ولم نعرف كيف نجيب عليه. إنه خطأ الأستاذ السعودي الذي لم يستطع أن يجعل المدينة تتبناه، أليس كذلك، ربما كان يجب على الأساتذة أن يمارسوا دور "الشحاته" على أبواب المدينة كما يمارسونها على أبواب الشركات والمؤسسات الحكومية الأخرى، لولا أنهم اكتشفوا أن "الشحاته" على أبواب المدينة غير مجدية اقتصاديا.

(4)

في الليلة الأخيرة في امستردام قابلنا اثنين من الأمريكيين في بهو الفندق وكنت مع الدكتور عيسى الأنصاري (مدير جامعة الأمير محمد بن فهد) عندما فاجأنا أحد الأمريكيين بسؤالنا إذا ما كان يمكنه وصديقه الجلوس معنا فقد كان بهو الفندق خاليا إلا منا نحن الأربعة والعاملين في الفندق، فلم نمانع وعرفنا أنهما يعملان في شركة (بوينج) لصناعة الطائرات وأن مهمتها هي بناء نموذج للصيانة بالاعتماد على النماذج الثلاثية الأبعاد المرسومة (بالكاد) وهي فكرة جديدة لم تتضح معالمها بعد لكنهما يجوبان العالم من اجل ألقاء محاضرات وتدريب المتخصصين في صيانة طائرات البوينج على الفكرة الجديدة. قلت في نفسي إن أمريكا بلد الأحلام التي تتحقق فكل فكرة يمكن العمل والمثابرة من أجل تحقيقها وسوف تجد من يتبناها والصناعة مفتاح التطور لأنها هي التي تصنع جامعات حقيقية وهي التي تبني تقاليد بحثية لها جدواها وتأثيرها وكل هذا مفقود داخل الجامعات السعودية. بالنسبة لي لا انتظر من أي جهة تصنف الجامعات السعودية حتى أتأكد أننا تحركنا قليلا من ذيل القائمة، فأنا لست مؤمنا بمثل هذه التصنيفات لكني مؤمن وبشدة بالانجاز الذي يمكن قياسه والبحث العلمي أحد اهم الانجازات التي يمكن أن تعتمد عليها الجامعة في بناء سمعتها وهويتها. لقد تحدثنا مع الأمريكيين في قضايا كثيرة بدأت بالعلم وانتهت بنظرة الأمريكيين للسعوديين بعد الحادي عشر من سبتمبر ونظرة السعوديين بشكل عام للأمريكيين وكيف يمكن أن يحدث تقارب مرة أخرى بين المجتمع السعودي والأمريكي.

(5)

أعود مرة أخرى لوفد جامعة (كرتن) الاسترالية فقد استمتعت بحماس قادة الجامعة وهم يتحدثون عن انجازات جامعتهم (فلديهم ما يقولون) لكني توقفت عند كلمة رددها احدهم كثيرا وهي (أوف شور اكبيرنس) وتعني الخبرة لما وراء البحار أو العالمية وتذكرت هنا بنوك "الأوفشور" وقلت إنني سوف اكتب مقالا بعنوان "من بنوك الأوفشور إلى جامعات الأوفشور" إذ يبدو أن تصدير الخبرة التعليمية أصبح مصدر دخل كبير للجامعات المعروفة في الدول المتقدمة وخير مثال على جامعات "الأوفشور" هو قطر التي استطاعت ان تستقطب أكبر الجامعات في العالم لتفتح فروعا في مدينة الدوحة منها على سبيل المثال (تكساس أي أند أم وكورنيل). لا يمكن أن أقول إن هذه التجربة ناجحة فلم تعد في بدايتها لكن بكل تأكيد أنها تجربة تستحق المراقبة. جامعات "الأوفشور" التي صارت تتقاطر علينا مثل المطر منذ أن ارتفع سعر النفط تجد أن لها الحق ان تشاركنا في "الكيكة" خصوصا وأن تلك الجامعات تعرف يقينا أننا لا نملك خيارات أخرى، فهذه حالنا تمر علينا الفرص ولا نستفيد منها.

(6)

لقد سألني احد أعضاء الوفد الاسترالي عن وجود مراكز للبحوث في الجامعات السعودية وقلت له نعم يوجد بل ان وزارة التعليم العالي تقوم حاليا ببناء ثلاثة مراكز بحوث عملاقة (على حد تعبير البعض في الوزارة) ولكن لا اعلم إذا ما كانت هذه المراكز متخصصة في علوم محددة أم انها مراكز يكرر بعضها البعض. كما أنني قلت له إن مراكز البحوث في جامعتنا كبيرة لكن لا اعرف من هم الباحثون حقا وأين هم وماذا يعملون بالضبط وما هي نتائج أبحاثهم وعلاقتها بهمومنا التنموية والصناعية والاقتصادية والصحية. كما أن احد المهتمين قال لي "يا اخي انتم بلد يوجد فيها أكثر مرضى للسكر ولا يوجد لديكم مشروع وطني بحثي حول هذا المرض...كيف هذا؟" فلم أملك إلا أن هززت له رأسي، لكني قلت له ان المشكلة ليست في بحث عن مرض ما المسألة هي غياب للرؤية حول قيمة البحث العلمي وكل ما يحدث هو مجرد ذر للرماد في العيون حتى مراكز الأبحاث الجديدة التي تقوم ببنائها الوزارة فكرنا في المباني قبل الباحثين وكأن المباني هي التي تصنع البحث العلمي (ولموضوع المباني حديث مطول اتركه لمقال آخر).

(7)

أتحدث عن هوية الجامعة السعودية وأربطها بالبحث العلمي في هذا المقال وأنا أعي تماما أن محددات الشخصية لا تقتصر على البحث العلمي فقط وأن بناء سمعة الجامعة وتأكيد هويتها لا يقتصر على البحوث التي تنتجها الجامعة بل هناك الكثير الذي يمكن أن يصنع هذه الشخصية لكن دون شك أن غياب البحث العلمي مؤشر خطير على غياب دور الجامعة، فلا ينزعج البعض عندما نقول ان جامعاتنا هي مجرد ثانويات كبيرة فنحن لا نعني هنا مستوى التعليم فقط بل نعني "معنى الجامعة" الذي يعني بصورة أو بأخرى "البحث العلمي". إنني أتساءل دائما هل لدينا ما يمكن أن نطلق عليه "الجامعة السعودية" ويكون لهذه العبارة معنى لدى المتلقى مثل "الجامعة الأمريكية" أو "الجامعة الألمانية" سؤال يعيدنا لمعنى الهوية وبناء الشخصية الأكاديمية.

binhlailبن هليــل
22-12-2007, 10:58 PM
الف شكر

الله يرحم العلماء والمفكرين

ما بقي الا مثل زبد السيل

لك

خالص التقدير

آحسـ إنسآن ـآس
03-01-2008, 10:34 AM
مشكور على الموضوع.

الــزعــيــم
23-04-2008, 02:12 PM
الوقت هذا الكل يبحث عن المااااده

لكن العلماء لاحد يبحث عنهم

مشكوووور على هذا الطرح الرااااائع

تقبل تحياااااتي الخاااااصة

المبدع
05-12-2008, 06:37 PM
مشكور والله يعطيك ألف عافيه


تحياتي

! الموهوب !
15-07-2009, 08:14 AM
مشكور وماقصرت على الموضوع..

وواصل ابداعك الدائم ...

تقبل تحياااااتي